مصيدة المكان | فصل

 

صدر حديثًا عن «مدار – المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة»، كتاب الباحث محمّد جبالي «مصيدة المكان – دراسة نقديّة لحقل الفنون التشكيليّة في إسرائيل» (2022)، والّذي ينسج تاريخًا لا خطّيًّا للفنّ الإسرائيليّ، ناقلًا حركاته الرئيسة وتحوّلاته المهمّة، ومتجوّلًا في معارضه البارزة ومدارسه المختلفة، عبر أزمنة متعدّدة، مفكًّكًا روايات هذه الحركات، وكاشفًا عن مغالطاتها وزيف تمثيلها للمقاومة والمثالية.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة جزءًا من مقدّمة الكتاب بإذن من الناشر.

 


 

يحاول هذا الكتاب بحث بعض من الخطوط العريضة الّتي تحاول أن تشكّل الإطار الّذي يحوي جواب سؤال ذي شقّين: ما هو الفنّ الإسرائيليّ المعاصر؟ وكيف يكتب الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ الراهن تاريخ تشكيله؟ ليس لنقوم بتعريف موسوعاتيّ لما هو الفنّ الإسرائيليّ، وإنّما لنبحث في ما هي الآليّات الجماليّة والحسّيّة الّتي يطبّقها الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ الرفيع (مركّزين على منتج الفنون التشكيليّة) على المجتمع الإسرائيليّ، اليهود في العالم، صورة إسرائيل في العالم، وعلى أرض فلسطين وشعب فلسطين، وما هي علاقتها الجدليّة مع تكوين مفهوم ’إسرائيل‘ ومفهوم ’الشعب اليهوديّ‘ في العالم ككلّ من جهة، وما علاقتها مع ممارسة سلطة إسرائيل وسيطرة ’الشعب اليهوديّ‘ على أرض فلسطين من جهة أخرى.

 

الفلسطينيّ باحثًا 

لكنّنا، بالرغم من اهتمامنا الأساسيّ بالتناقض الكامن في لبّ تكوين حقل فنّيّ حداثيّ يدّعي تطوير الحسّ المرهف والمؤَنْسِنْ في حالة استعماريّة استيطانيّة، لن نسرد في هذا الكتاب تاريخ فنّ فلسطينيّ أو تاريخ فنّانين فلسطينيّين، وإنّما سنحاول إنتاج نقطة أرخميديّة تقف خارج الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ وتقرأه من خارج هوامشه النقديّة، واضعين صوب أعيننا الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ كما تؤطّره هوامشه كموضوع البحث، آملين بأن يشكّل هذا إنتاجًا معرفيًّا أوسع، من خلال قلب موازين الذات الفاعلة مقابل موضوع البحث، لنضع أنفسنا كفلسطينيّين في موضع الذوات الفاعلة والمحلِّلة الّتي تقرأ موضوع البحث الإسرائيليّ، بدلًا عن سرد رواية الفلسطينيّ كضحيّة للمنظومة، ليس استهانةً بالجهود البحثيّة الّتي تحاول أن تعيد الفلسطينيّ إلى التاريخ، ولكن من خلال إعادة الفلسطينيّ إلى التاريخ كقارئ للمنظومة الّتي تحكمه إن صحّ التعبير.

سنحاول إنتاج نقطة أرخميديّة تقف خارج الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ وتقرأه من خارج هوامشه النقديّة، واضعين صوب أعيننا الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ كما تؤطّره هوامشه كموضوع البحث

لهذا، وبمفهوم أوسع، يسعى هذا الكتاب إلى رسم بعض الخطوط العريضة الّتي تشكّل النظام الجماليّ والحسّيّ الّذي يؤسّس للحقل الفنّيّ الحداثيّ المعاصر، الّذي طوّره المجتمع الإسرائيليّ على أرض فلسطين، من خلال تجلّيّات أسئلته النقديّة في اللحظة الراهنة للفنّ الإسرائيليّ المعاصر والظروف السياسيّة الّتي يعيشها ويمارسها ويجاوب عليها ويشكّل من خلالها صياغته للأسئلة الجماليّة والحسّيّة الّتي تواجه هذا المجتمع بتكوينه الاستعماريّ الاستيطانيّ المتوسّع دومًا على أرض فلسطين.

بهذا المفهوم، وكما نأمل أن يوضّح الكتاب، يشكّل الحقل الفنّيّ الحداثيّ في المجتمعات الحديثة، المتشكّلة داخل أطر الدول القوميّة، مساحة تَلامُس بين نظام فنّيّ عالميّ ومجتمع محلّيّ، لهذا، فهو مفهوم يقوم بوظيفتين متوازيتين في الزمن ومتعاكستين في الاتّجاه. في اللحظة ذاتها يقوم الحقل الفنّيّ ’المحلّيّ‘ بتمثيل المجتمع المتخيّل داخل إطار الدولة القوميّة في المحافل الدوليّة والعالميّة في سهم اتّجاه يحاول أن يمارس سلطة تمثيل الداخل في الخارج، هذا في وظيفته الأولى. أمّا في وظيفته الثانية فهو يقوم بتمثيل النظام العالميّ الجماليّ والسياسيّ الّذي يتبع له في سهم اتّجاه ممارسة سلطة تطبيق النظام العالميّ داخليًّا على المجتمع ’المحلّيّ‘ الّذي يدّعي تمثيله، وعلى الأرض الّتي يدّعي رسّاموه أنّهم يرسمونها باعتبارها منظر وطنهم.

 

سلطة الفنّ التمثيليّة

تختلف الحقول الفنّيّة وتتفاوت في العالم – سواء أكانت تتشكّل داخل دول قوميّة أم في هيئات عابرة للدول – في مدى ممارستها سلطة خارجيّة على مجتمع محلّيّ. وهذا يعود إلى معطى أوّليّ: مدى بعد المجتمع المحلّيّ عن مركز تشكيل النظام الفنّيّ العالميّ. وثانيًّا، يعود إلى مدى التورّط الاستعماريّ الّذي يمارسه الحقل الفنّيّ في تمثيل قوى ’أجنبيّة‘ على أرض ’محلّيّة‘. وأمّا في القطب المعاكس، فتتفاوت الحقول الفنّيّة القوميّة بمدى قوّتها على التأثير في صياغة جماليّات الحقل الفنّيّ العالميّ، وعلى مدى قدرتها على تمثيل التعبير الجماليّ للمكان الّذي تشكّلت فيه.

تتفاوت الحقول الفنّيّة القوميّة بمدى قوّتها على التأثير في صياغة جماليّات الحقل الفنّيّ العالميّ، وعلى مدى قدرتها على تمثيل التعبير الجماليّ للمكان الّذي تشكّلت فيه...

يتمثّل أحد الأركان الّتي يعتمدها الكتاب، في جميع الفصول، في أنّ بحث الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ الرفيع يشكّل حالة فريدة وغنيّة بالمعاني في كلّ ما يتعلّق ببناء الدول والمجتمعات الحديثة وخصوصًا الّتي تدّعي أنّها الديمقراطيّة الليبراليّة الغربيّة منها. هذا لأنّ الحقل الفنّيّ الرفيع، مثله مثل الأكاديميّات على سبيل مثال آخر، هو إحدى المساحات الّتي توكل لها وظيفة ممارسة التمرّد والنقد كوظيفة رسميّة، تكاد تكون بمرسوم توكيل سلطويّ من قبل جهاز الدولة، بالرغم من ادّعائها أنّها مساحة نقد هذا الجهاز وأحيانًا مساحة نقضه. لهذا يكاد يكون فصل الفنّ عن السلطة في الدول الحديثة مثله كمثل فصل السلطات القضائيّة والتنفيذيّة؛ فبالرغم من فصل السلطة القضائيّة عن السلطة التنفيذيّة، هل كنّا سندّعي أنّ إجراءات كبح جماح السلطة التنفيذيّة الّتي تمارسها السلطات القضائيّة تُخْرِج السلطات القضائيّة خارج منظومة الدولة؟ على الأرجح أنّنا كنّا سنجيب بلا على هذا السؤال في الغالبيّة الساحقة من الحالات.

لكنّ الحقل الفنّيّ الحداثيّ الغربيّ يحمل تاريخًا من رفع راية ’لا – سلطويّة‘، فكيف نحلّ هذا التناقض؟ خصوصًا عن بروز تناقضه في الحالة الإسرائيليّة بين حقل فنّيّ يدّعي ’الأنسنة‘ وحالة استعمار استيطانيّ في لبّ تشكيل المجتمع الّذي يكوّن هذا الحقل الفنّيّ؟ وإن كنّا ذكرنا الأكاديميّات كمساحة وحقل يجب أن يحافظ على استقلاليّته والنأي بنفسه عن الارتباط بمسار سلطويّ، سياسيّ أو أيديولوجيّ معيّن، من أجل إنتاج معرفة خالصة لصالح المجتمع ككلّ بعيدًا عن المصلحة المباشرة، فربّما وجب الإشارة إلى أنّ هذه العلاقة في الحقل الفنّيّ مركّبة ومعقّدة أكثر؛ فالفنّ الرفيع لكي يكون فنًّا وليس مجرّد حرفة جميلة يجب أن ينأى بنفسه عن ممارسة خدمة لحقل أو قوى اجتماعيّة أخرى. يجب عليه أن يكون فنًّا يطوّر الحسّ الفنّيّ في المجتمع ويمارسه، لا أن يخضع لشهوات السوق والاستهلاك والشراء والبيع، ولا أن يخضع لأيديولوجيا أو خطّ سياسيّ معيّنين. فهل فعلًا يستطيع الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ أن ينأى بنفسه عن خدمة العمليّة الاستيطانيّة الاستعماريّة في فلسطين؟

 

الفنّ الإسرائيليّ والمشروع الاستعماريّ 

غالبًا ما تتمّ الإشارة إلى المساحة الشاسعة الّتي يمنحها الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ للتعبير عن مناهضة ’الاحتلال‘ من جهة، وعن الرغبة بالسلام والتواصل من جهة أخرى، وكيف تشكّل هذه المساحة حيّزًا مهمًّا ومؤثّرًا اجتماعيًّا وسياسيًّا لقوى اليسار والتقدّم في المجتمع الإسرائيليّ من أجل التأثير في الديمقراطيّة الإسرائيليّة. عادة ما يشكّل هذا المنظور إشارة إلى وجوب استثناء ’الفنّ الإسرائيليّ الرفيع‘ وعدم الخلط بينه وبين القوى ’الاستعماريّة‘ في المجتمع الإسرائيليّ. وفعلًأ تشكّل كثافة التعابير النقديّة في الحقل الفنّيّ الإسرائيليّ، والمساحة غير الضئيلة الّتي يشغلها الفنّانون المناهضون للاحتلال في تيّاراته ونخبه، معضلة ليست هيّنة في وجه أيّ باحث يحاول تتبّع تاريخ هذا الحقل وراهنه.

يرى الحقل الفنّيّ نفسه، على وجه العموم، وفي الحالة الإسرائيليّة خاصّة، على أنّه الممثّل للتجربة الفنّيّة والمدافع عنها بما تحمله من إرث وطاقة كامنة لتحرير الإنسان وإنتاج المجتمع الحرّ...

بالإضافة إلى ذلك، يرى الحقل الفنّيّ نفسه، على وجه العموم، وفي الحالة الإسرائيليّة خاصّة، على أنّه الممثّل للتجربة الفنّيّة والمدافع عنها بما تحمله من إرث وطاقة كامنة لتحرير الإنسان وإنتاج المجتمع الحرّ؛ أي أنّه حتّى لو لم يكن الفنّ يقاوم الاحتلال بشكل مباشر، بمجرّد قيام الفنّ بدوره وانشغاله في التعبير عن الفنّ كفنّ والتجربة الجماليّة كتجربة فنّيّة رفيعة، فهذا وحده قادر على حمل المجتمع والدولة والواقع إلى تطبيق واقع حرّ أكثر، ولهذا حتمًا أكثر عدالة وتقدّمًا، لمجرّد تطويره لحساسيّة الإنسان لمحيطه وحيّزه وعالمه، ومن خلال ذلك تطوير حساسيّته بالظلم والعدل والمساواة والمصير المشترك للبشر كمجموعة تمتلك الحساسيّة الجماليّة نفسها للعالم؛ أي أنّ الوظيفة المؤنسِنة الّتي يمارسها الحقل الفنّيّ، وفق هذا التوجّه، لا تنبع من مجرّد توفيره حيّزًا ليعبّر الإنسان عن نفسه بحرّيّة وبشكل رفيع، بل ويجب أن يتمّ ذلك من خلال الابتعاد عن الانشغال بالسياسة والاهتمام فقط بالتعبير الشكلاويّ بدون علاقة بالمضمون. وفق هذا المنظور، فقط من خلال الانغماس حصرًا بجماليّات الشكل والتصوير، يقوم العمل الفنّيّ بدوره في صيرورة تحرير الإنسان.

 


 

مدار 

 

 

 

مركز بحثيّ مستقلّ متخصّص في الشأن الإسرائيليّ، مقرّه في مدينة رام الله. تأسّس عام 2000، بمبادرة مجموعة من المثقّفين والأكاديميّين الفلسطينيّين، من بينهم الشاعر الراحل محمود درويش، د. ليلى فيضي، د. علي الجرباوي، د. أحمد حرب، وليد الأحمد، وأكرم هنيّة.